دلال البزري- بؤس الغراميات والكراهيات الإقليمية

  • شارك هذا الخبر
Thursday, May 9, 2019

أُغلق باب الأمل في لبنان. الهجرات، الإفلاسات، البطالة، وأوجه أخرى من الانهيار، يتجاوز بعضها الخيال. وبقايا نَفَس عند رجال قلقين بالسؤال عن هذا السُبات الذي أصاب اللبنانيين، وحوّلهم إلى كائناتٍ غائبةٍ عن واقعها ومقبوض عليها في سجنها، في آن. ثمة تفسير لهذا "الرُقاد" السياسي من نوع: "نظام طائفي" و"فساد" وزبائنية وعصبيات... إلخ. وفي غمرة هذا المونولوغ، الذاتي، الفاقد للصدى، يطلع علينا مسؤولون حزبيون بأرنب النظامين السعودي والإيراني، وكأنه هو "النقاش".

رجلان في الموقع الثاني لحزبَيهما الطائفيَين. الأول نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله، يطلق، في خطاب أخير، كلمات عن المملكة السعودية: بيت مال المشروع الأميركي - الإسرائيلي، جرائم المملكة، مملكة الشر، النظام الديكتاتوري، كل أنواع الظلم بأوامر أميركية، يرتكب مجزرة إنسانية بإعدامها عدداً من مواطنيها من دون محاكمة... إلخ، إلى ما هنالك من عبارات الهجاء المتماشية مع العصر. فيردّ عليه الرجل الثاني في تيار المستقبل، أحمد الحريري، بأن ما قاله عن السعودية لا ينطبق إلا على إيران: فنظامها يخرِّب المجتمعات العربية، يشعل الحروب الأهلية والمذهبية، ويصدّر الفتنة، ومليشياته المذهبية، نظام استبداد وديكتاتورية، يواصل مسلسل إعدام عرب الأحواز. السعودية عكس إيران، قبْلة المسلمين والعرب والعالم، بيت كرامة العرب، ومملكة الحزم...

هذا عن الرجلين، ذوَي المرتبة الثانية، في أهم حزبين طائفيين ممْسكين بالسلطة في لبنان، وإن بغير تعادُل. بعد أيام، أتى دور الرجل الأول: حسن نصر الله، يُعلي من الجرعة الهجائية لنائبه، ويحولها إلى كراهيةٍ محْضة، فيقول، في خطاب تلاه: "طبعاً أنا لا أحب الملك سلمان بل أكرهه، أكرهه من أعماق قلبي" (نقلاً عن وكالة الأنباء اللبنانية المركزية الرسمية. وأشير هنا إلى المصدر لأن هذه الجملة من الخطاب غابت عن الإعلام الموالي لحزب لله). مقابل هذه العواطف الجيّاشة، لا يملك نظيره، سعد الحريري، الرجل الأول في تيار المستقبل، غير ما في أرشيفه من مدائح لمملكة الخير والعطاء والحزم والإيمان والسخاء والعُزوة والسلام...

هذا الذي يُفترض به أن يكون نقاشاً هو في الواقع تقارعٌ بالعصي، لا تبادلٌ للكلمات. وهو ليس غريباً عن الساحة "الفكرية" اللبنانية. سبقته موجات كراهيةٍ واسعة في الاتجاهين، بين عاشق للمملكة وعاشق للجمهورية الإسلامية؛ كلٌ بحسب انتمائه المذهبي. سنّة المملكة وشيعة الجمهورية تطاحنوا في الشوارع واليافطات، كما في الصحافة وعلى الشاشات. ولكن ولا مرة بلغوا الوضوح الأخير. وضوح من يطلب من المواطن أن يكون "منطقياً" مع نفسه، و"يختار" الدولة المثالية التي في خاطره: فإذا كان مع المقاومة ضد إسرائيل وأميركا، فعليه أن يمتدح النظام الإيراني ويكره النظام السعودي، حدّا أقصى؛ أو لا يتكلم بالسوء عن النظام الإيراني حدّا أدنى، يسكت عنه. وبالعكس إذا كان ضد المقاومة: يمتدح السعودي ويكره الإيراني.. إلخ. فيدخل في الهذيان العام الذي أتاه الدعم القوي من حسن نصر الله هذه المرة: باب الكراهية صار مفتوحاً على مصراعيه، والطاقات الشبابية القادرة على الحركة يمكن أن تغرف منه مزيدا من الراحة لتصويب أسهمها النارية نحو هذا أو ذاك من عاشقي المملكة أو الجمهورية الإسلاميّتَين، إذ لن تتأخر مشاعر نصر الله الجيّاشة بتوليد كراهية مضادّة على أساس الحب السعودي. وهكذا، حتى تتعمَّق الغيبوبة اللبنانية، فنضيع في بحور التيه والتحشيد والسخافة. لا طيبة تشفع لنا، ولا كفارة؛ إنما بغضاء متورِّمة؛ هي الدينامو السياسي المحرّك للنزول إلى الشارع، أو التحرّك المطلبي الذي تُرى نثرات منه موزعة بين حزبٍ وحزب: في السلطة، أو خارجها؛ من دون أن يعارض هذا الأخير إلا بعضها. بل هو موالٍ لإحدى أجنحتها. وذلك كله على قاعدة التفضيل بين نظامين سياسيين، السعودية وإيران، هما الأسوأ في العالم؛ خصوصاً من ناحية الحريات التي ما زالت ثمينة عند اللبنانيين، على الرغم من السوس الذي نخرها، وبنشاط، منذ نهاية الحرب الأهلية، فصرنا شعباً محتاراً بين نظامين سياسيين، كلاهما أمرّ من الآخر. بين نظام هو الثاني في عدد إعداماته (إيران)، وآخر هو الثالث (السعودية). نظامان يتنافسان على لائحة الإعدامات، بقدر ما يتنافسان على قهر شعبهما وإسكاته والخوف من حريته، وضربه وقتله باسم الدين.
بين سنّة يعشقون المملكة وشيعة يكرهونها. أو، بين شيعةٍ يعشقون إيران وسنّة يكرهونها... هذا ما رستْ عليه إحدى معادلات التوازن اللبناني المضطرب الذي لا يتحمل لفْحة هواء. ومكْمن بؤسها أنها مثل عودة إلى الطفولة، ولكن من دون براءتها.

أواسط إبريل/ نيسان الماضي، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرها عن الإعدامات في العالم، وحول أرقامها القياسية: الأولى هي الصين (ألف إعدام عام 2018)، تليها إيران (253 عملية إعدام). وقد شهد هذا العدد انخفاضا إلى النصف قياسا إلى العام 2017، وذلك بفضل قانون جديد نص على زيادة كمية المخدرات التي في حوزة الموقوف، وتجيز إصدار قرار بإعدامه. ثم المملكة العربية الثالثة في الترتيب (149)، وتتميز إعداماتها بوحشيتها المعلنة مع قطع الرؤوس، وبتنفيذها الإعدام بحق مواطنين غير سعوديين، سوريين، باكستانيين، يمنيين، مصريين.