رفعت ابراهيم البدوي - حكومة اللاثقة.. بالثقة!

  • شارك هذا الخبر
Thursday, February 21, 2019

شهد مجلس النواب مناقشات حادة واتهامات متبادلة بين أعضاء الكتل النيابية المتخاصمة، كادت تودي بالتسوية الرئاسية، وحتى بالتسوية الحكومية التي استغرق الوصول إليها مدة تسعة أشهر.

بدا جلياً ان المعايير التي اعتمدت لتشكيل الحكومة، والتأخير الذي حصل بحجة تأمين تمثيل كل الاطياف السياسية، هي معايير هشة لا يمكنها حماية الوطن، وأنها معايير لا تعدو كونها تقاسماً للنفوذ وتشاركاً في الحصص التي تؤمن المصالح ليس إلاّ، وأن هذا الامر يسهم في تغييب أو تعطيل مبدأ المساءلة والمحاسبة.

إن ما شهده لبنان من تجمعات حزبية، وخطابات رنانة تهدد بالعودة إلى حمل السلاح والتسلّح، استعداداً لمواجهة فريق، جراء المشاحنات الحادة في المجلس النيابي، تحت عناوين الدفاع عن الشهداء والمقدسات، أعادت بنا عقارب الساعة إلى زمن الحرب اللبنانية، الأمر الذي هدّد بانفجار الشارع، ما اضطر بعض النواب العقلاء الى التدخل لاحتواء الوضع ولملمة الشارع.

إن توتر الشارع، والتجمعات والاستنفار المتبادل، هو دليل واضح على هشاشة كل التسويات التي اعتمدت بين الفرقاء، كما أثبت الواقع أن اللبنانيين بمعظمهم لم يتجاوزوا ذيول الحرب اللبنانية، وأن بعضهم ما زال ماضٍ في رهاناته الخارجية، رغم ثبوت خطأ تلك الرهانات وخسارتها.

لقد ثبت للقاصي والداني، أن معظم اللبنانيين لم يبلغوا سن الرشد في إدارة شؤون الوطن من دون إملاءات خارجية وأنهم لم يتوانوا عن استنفار شارعهم وجمهورهم وإن كانت الاسباب تافهة، وذلك لتثبيت زعامات واهية، حتى لو أدى ذلك الى تهديد السلم الأهلي، وعلى حساب أمن الوطن والمواطن، على الرغم من تردي الاوضاع الاقتصادية والمعيشية بالفساد المستشري، وبالنهب المنظم للمال العام نتيجة تقاسم الحصص بين مكونات السلطة.

صحيح أن حكومة "إلى العمل" كما سُمّيت، نالت ثقة المجلس بأغلبية 111 مقابل 6 حجبوا الثقة بعد مناقشات حادة للبيان الوزاري، لكن اللافت هو تركيز الخطابات على المطالبة بضرورة مكافحة الفساد المستشري وعصر النفقات، وتحسين الوضع المالي في مختلف مرافق الدولة. وإذا ما عدنا لمجمل البيانات الوزارية التي تم اعتمادها في الحكومات السابقة، لوجدنا أن البيان الوزاري كناية عن كلامٍ وبنود تبقى دائماً عبارة عن وعود تحمل عناوين فضفاضة من دون اعتماد اي آلية للتنفيذ، وهذا ما بدا في كلمة الرئيس سعد الحريري في معرض ردّه على مداخلات النواب في المجلس النيابي.

اللافت ان مجمل المداخلات والاقتراحات، وحتى رد الرئيس سعد الحريري، جلّها لم تتطرق إلى الآلية الواجب اتباعها لمكافحة الفساد أو الآيلة الى وقف الهدر ومنع الاستمرار بنهب المال العام، أو حتى لوضع آلية من شأنها أن تقود الى اتباع هندسة مالية تؤدي الى خفض الدين العام.

ان مكافحة الفساد وإغلاق أبواب الهدر المالي لن تجدي نفعاً ولن تؤتي أكلها إذا لم يتم اعتماد ورشة اصلاح وتحديث حقيقية للقوانين المعمول بها، من خلال البحث في كيفية سد الثغرات التي تمكن الوزير أو النائب أو المدير العام أو أي رئيس مصلحة من التحايل على القوانين في ممارسة فساده وبغطاء قانوني.

تبقى عملية مكافحة الفساد بحاجة الى استقلالية تامة في القضاء، ومنع ممارسة أي ضغوط سياسية لأي أحكام أو خطوات من شأنها تعطيل مبدأ المحاصصة. كما أننا بحاجة ماسة إلى تفعيل دور لجنة الرقابة في ديوان المحاسبة، إفساحاً في المجال أمام ممارسة دورها في التدقيق ودرس وتفحص استدراج العروض، واخضاع كل التلزيمات وعملية فتح المظاريف، واعتماد مبدأ الشفافية والوضوح والالتزام بالقوانين المتبعة. إضافة الى ذلك، نحن بحاجة إلى وضع آليات واضحة وشفافة ملزمة للمسؤول والمواطن على حد سواء، تدلنا على السبل الناجعة التي ستتبعها الحكومة في مكافحة آفة الفساد والحد منها.

لقد ثبت أن أي معالجة حقيقية هدفها الحد من الفساد تبقى غير فاعلة من دون الاعلان عن الآليات والالتزام بالقوانين المستحدثة، وسيبقى مبدأ المحاصصة القاعدة المعتمدة، وبذلك يستمر فساد المسؤول والمجتمع.

ما سمعناه من بعض النواب والجهات الفاعلة من تصميم على مكافحة الفساد هو أمر جيد، لكن يبقى السؤال: هل ان مكافحة الفساد تقتصر على المرحلة المقبلة، أم انها ستشمل ما تمّ سابقاً من ممارسة للفساد ونهب منظّم لأموال الهبات والتسليفات، وأموال صناديق التنمية لتنفيذ المشاريع، وإعادة فتح ودرس ملف التلزيمات في الكهرباء والاتصالات والطرقات، وحتى في رخص البناء والمشاريع البحرية التي اقيمت سابقاً خلافاً لكل القوانين وبتغطية مباشرة من المتنفذين بالتراضي، والعمل على محاسبتهم بجدية والسعي لاستعادة تلك المليارات المنهوبة الى خزينة الدولة؟

إن أي مكافحة للفساد تبقى معطلة، غير فاعلة، ومن دون نتائج ملموسة، اذا لم تتضمن استعادة أموال الدولة المنهوبة، وتحويل كل من يثبت مشاركته بالصفقات المشبوهة أو بالسرقة الى القضاء للمساءلة والمحاسبة وبشفافية تامة، تماماً كما حصل في العام 1998 في عهد الرئيس اميل لحود وحكومة الرئيس سليم الحص حين أُحيل وزير النفط السابق الى القضاء، بعيداً عن أي تأثير سياسي، ثم أُدخل السجن بعد ثبوت تهمة المتاجرة بمادة الفيول أويل عليه.

من المبكر الحكم على اداء حكومة نالت لتوها ثقة المجلس النيابي، بيد أن القضاء الحر والمحاسبة والمراقبة والمساءلة، كلها دوافع يجب تفعيلها، لأنها عوامل رافعة وضامنة في تعطيل مبدأ المحاصصة الذي يعتبر المعبر الرئيسي نحو الفساد.

ان اتباع سياسة عفا الله عما سلف، وأن ما تم نهبه من اموال الدولة سابقاً قد تبخّر وذهب مع الريح، لم تعد تجدي نفعاً، بيد أن سياسة ملاحقة الناهب والسارق أمام القضاء، واخضاعه للمحاسبة، تبقى هي المدخل والممر الالزامي والضامن في انجاح عملية مكافحة الفساد.

نالت الحكومة ثقة النواب، لكن هذا لا يعني الحصول على ثقة المواطن المقهور، لأنها تبقى الأحق والأجدر

طالما بقي المرتكب والسارق مجهولاً، واستمر العمل بمبدأ المحاصصة الطائفية والمذهبية، ولم يتم تشجيع القطاعات الداخلية المنتجة، واستمر اللجوء الى الاستدانة المستدامة، وإلى زيادة الضرائب على المواطن من دون أي نتائج ملموسة… فإن الثقة الممنوحة للحكومة تبقى ثقة ملتبسة، لأن ظاهرها وباطنها يوحي أن هدفها تأمين مصالح المتنفذين، ليبقى المواطن لا ثقة له بالثقة الممنوحة للحكومة وللنواب معاً…