محمد أبو الفضل- مباراة أميركية روسية جديدة على ساحة القضية الفلسطينية

  • شارك هذا الخبر
Monday, February 11, 2019

واحدة من المشكلات التي تعصف بالقضية الفلسطينية أنها تحولت إلى ورقة للمناورات والمساومات في أيدي قوى محلية وإقليمية ودولية، وكل قوة تستحق الوقوف عندها وتشريح مواقفها باستفاضة، لكن المقال سيكتفي بالتركيز على أحد التجليات المتعلقة ببوادر سباق أميركي روسي تتبلور ملامحه حاليا، وقد تسطع عليه الأضواء بقوة الفترة المقبلة.

الجولة التي سيقوم بها جاريد كوشنير كبير مستشاري البيت الأبيض، وجيسون غرينبلات مبعوث السلام في الشرق الأوسط، في خمس دول عربية، وربما أكثر، تؤكد أن واشنطن لن تتخلى عن صفقتها لتسوية القضية الفلسطينية، فالمحطات التي سيتوقفان فيها قبل نهاية فبراير الجاري، ترمي إلى إقناع أصحابها بتوفير دعم اقتصادي سخي يساهم في تخفيف الضغوط الإنسانية على قطاع غزة، وفتح الباب أمام منح الأفق السياسي طاقة أمل.

اختزال الجولة المنتظرة في الشق الاقتصادي الظاهر، لا يعني غياب الأبعاد الأخرى، لأن منطق الحصول على مساعدات أصلا يحتاج لأدوات سياسية، وحصر القضية في المكونات المادية يفرغها من مضامينها وثوابتها، وهو ما ترفضه الكثير من الدول العربية.

اليقظة الأميركية، أو ما يمكن وصفه بالرغبة في ضخ دماء في عروق “صفقة القرن” بعد تحديات جمة واجهتها تسير على خطين متوازيين. فإذا كان الخط الاقتصادي واضحا في جولة كوشنير- غرينبلات العربية، فإن الخط السياسي هو الطاغي في الاجتماع الذي دعت إليه واشنطن في وارسو يومي الثلاثاء والأربعاء القادمين لمناقشة مستقبل عملية التسوية.

الطريقة المفاجئة التي تسير عليها الإدارة الأميركية تريد الإيحاء بعدم التفريط في دورها على الساحة الفلسطينية، وأنها على استعداد لإعادة النظر في المحتويات التي جرى تسريبها الفترة الماضية حول مشروع الحل المعروف بـ”صفقة القرن”، بدليل استمرار الجولات الميدانية من قبل مسؤولين رفيعي المستوى، والدعوة إلى لقاء دولي في وارسو عاصمة بولندا.

الدفقة الأميركية، الاقتصادية والسياسية، الإقليمية والدولية، غير منفصلة عن دفقة أخرى منحتها روسيا للقضية ذاتها مؤخرا، عندما دعت الفصائل الفلسطينية الشهر الماضي إلى موسكو لحضور اجتماع، أُعلن أنه سيعقد في منتصف فبراير الجاري، لمناقشة مصير المصالحة وسبل تجاوز العقبات الراهنة، وحظيت الدعوة بتجاوب كبير من غالبية القوى، في مقدمتها السلطة الفلسطينية، التي دخلت مرحلة دقيقة من الخلاف مع الإدارة الأميركية.

التحركات التي أعلنت عنها واشنطن قد لا تتمخض عنها نتائج ملموسة، لكن تؤكد عدم التخلي عن دورها المحوري في القضية الفلسطينية، والعثرات التي تواجهها بسبب انحيازها المبالغ فيه لإسرائيل لن تثنيها عن ترك الساحة تماما لموسكو، التي تسعى ليكون لها دور فاعل، مستفيدة من الكسل الأميركي وإخفاقات الرئيس دونالد ترامب، وتجاوب القوى الفلسطينية معها، وتطور علاقاتها مع إسرائيل، بما يمنحها طاقة سياسية للحركة في قضية ظلت الولايات المتحدة قابضة على زمامها لعقود طويلة.

الصراعات والنزاعات والتوترات المتعددة في منطقة الشرق الأوسط، منحت موسكو مساحة جيدة للحضور والتفاعل وإعادة التموضع السياسي، في وقت تبدو فيه قدرات واشنطن تتراجع، وظهرت علامات مختلفة للارتباك في بعض تحركاتها الإقليمية، وباتت تخيم على كثير من تصوراتها وممارساتها وبينها القضية الفلسطينية، ما جعل روسيا تطمع في الاستحواذ على جزء مهم من هذه الورقة، التي لا تزال دول متباينة تعتبرها مفصلية، ولو بصورة معنوية، في الحل والعقد لأزمات المنطقة.

معظم المقاربات الروسية لا تظهر مرة واحدة، وتميل إلى جس النبض وتوصيل رسائل متنوعة وتمهيد الطريق، وفي الحالة الفلسطينية نجحت في الحصول على مقدمات إيجابية من الطرفين، الفلسطيني والإسرائيلي، الفترة الماضية، شجعتها على التمادي في تطوير دورها ومحاولة صياغة رؤية تستطيع بها تليين المواقف الصعبة، وتسبغ عليها صفة قريبة من الحياد.

إسرائيل لن تجد ضالتها في أي منهج معتدل بالطبع، لكنها لن تمانع في التجاوب معه بشكل تكتيكي، لأن هناك تقاطعات كبيرة مع موسكو في الأراضي السورية، تستوجب عدم الدخول في صدامات مباشرة، وهو ما يقلق الإدارة الأميركية، ويدفعها إلى التحرك سريعا لعدم التفريط في الورقة الفلسطينية وتوصيل إشارات جذابة.

واشنطن وموسكو وغيرهما من الدول المعنية تدرك حجم التعقيدات في القضية، وصعوبة التوافق حول رؤية شاملة للتسوية، في وقت حافل بالتحديات وعلى أصعدة مختلفة، ولذلك يريد كل طرف ربطها بقضايا وحوافز وجوائز إقليمية، يمكن أن تدفع القوى الرافضة للتجاوب مع الطروحات المقدمة. في الحالة الأميركية، يلاحظ أن حل القضية الفلسطينية أصبح مرتبطا بمشروعات إقليمية اقتصادية طموحة، تسعى إلى ترتيب أوراق المنطقة بصورة تبعد عنها رواسب الماضي، وتدخلها محددات مستقبل يجري تشكيله بهدوء، وتمنح إسرائيل مزايا ربما تبعدها عن شبح التعامل معها ككيان منبوذ ومغتصب.

في الحالة الروسية، تجتهد بعض الدوائر في صياغة رؤية متطورة لكثير من الصراعات المتلاحمة في المنطقة، وأبرزها الأزمة السورية التي تسيطر موسكو على جزء معتبر فيها، والقضية الفلسطينية تجد أمامها فرصة للتفاعل معها، في ظل انتقادات تعرضت لها الولايات المتحدة، وكشفت بدرجة كبيرة عجزها عن قراءة المشهد بطريقة صحيحة، وهو ما جعل البعض في المنطقة يتحين فرصة لترمي روسيا بثقلها السياسي للحد من الهيمنة الأميركية.

الاهتمام الروسي بالقضية الفلسطينية، اتخذ أشكالا متباينة طوال العقود الماضية، وترك في مجملها انطباعات جيدة، عكس التوجهات الأميركية المؤيدة لإسرائيل، والتي تقلق من الفراغ الدولي الذي يمنح موسكو فرصد للتمدد في المنطقة لن تقتصر على القضية الفلسطينية وتوابعها، حيث تجتهد واشنطن في تكريس رعايتها لعملية السلام.

إصرار الولايات المتحدة على الضجيج الاقتصادي والسياسي الحالي، من الصعوبة أن ينهي ترددها في طرح صفقتها، ولن يفضي إلى إقناع الفلسطينيين ودول عربية عدة لتأييد رؤيتها الخفية، ولن يفيد في إعادة الثقة في إدارة ترامب بعد كل ما اتخذته من خطوات مسبقة أكدت دعمها الواضح لإسرائيل.

جميع التحركات التي قامت وستقوم بها واشنطن ترمي إلى عدم التخلي عن القضية الفلسطينية، وهي رسالة مهمة لمن راودتهم أحلام الاستعانة بالراعي الروسي لضبط التوازنات المختلة، فلا تزال الولايات المتحدة تملك من الأدوات ما يمكنها من تعطيل أي نجاح تتمنى قوى أخرى تحقيقه بعيدا عنها، وهو سلوك تتبعه قوى صغيرة تستطيع عرقلة الجهات المناوئة، إذا لم تتمكن من التقدم مباشرة.

المباراة المستترة التي تخوض واشنطن غمارها مع موسكو على الساحة الفلسطينية، تشبه الألعاب الرياضية التي يتم حسم نتائجها بتسجيل النقاط، وليس بالأهداف، ومن الممكن أن تستمر فترات طويلة، لذلك سوف تظل هذه القضية مجمدة حتى إشعار آخر، وهي صيغة باتت ترتاح لها غالبية أطرافها، المحلية والإقليمية والدولية، بما يجعلها خاضعة لها سنوات مقبلة.