فيوليت غزال البلعة- بيروت للشيخ محمد... "عذرا"!

  • شارك هذا الخبر
Wednesday, January 16, 2019

لم يكن من عادة الشيخ محمد بن راشد، حاكم إمارة دبي، أن يستفزّ أحداً... فكيف ببيروت؟ العاصمة التي أحبّها أكثر حين احتضنت ذكريات الطفولة لما مرّ بها هو وأخوته في طريقهم إلى لندن. بيروت التي أذهلت ذاك الصبي القادم "من صحراء دبي، من بيوتها الطينية، من شوارعها الترابية، من أسواقها المبنية من سعف النخيل".

لم يكن من عادة الشيخ محمد، كما يحلو للإماراتيين مناداته، أن يحسد أحداً... فكيف ببيروت؟ هي التي أثارت شهيته وألهبت أحلامه لـ"أن تكون دبي كبيروت يوماً ما". منها استلهم "موديل" دبي الناجح، مما رآه في طفولته. فقد "كانت شوارعها النظيفة وحاراتها الجميلة وأسواقها الحديثة في بداية الستينات، مصدر إلهام لي".

قصة الشيخ محمد مع بيروت "غالية" جداً على قلب العاصمة التي "لم تعد بيروت هي بيروت، وأصبح لبنان غير لبنان". فالساحة اللبنانية "ما زالت ساحة لتصفية كثير من الحسابات والصراعات التي لا تنتهي". بيروت التي جعلت الشيخ محمد يأسف لأن "لبنان يتمّ تفتيته وتقسيمه على مقاسات طائفية ومذهبية"، وأيضاً لأن "لبنان ما زال حتى يومنا هذا، ورقة يحاول الكثيرون اللعب بها".

قد يكون الشيخ محمد مصيباً في إدارته الحكيمة لعاصمة دولة الإمارات الاقتصادية والسياحية والاستثمارية. فهو وفي أعوام قليلة، نجح في إقحامها خريطة العالم... وكان أفضل عرّاب لنهضة طوّعت كل سبل التسويق الإيجابية لجعل دبي، مقصداً جامعاً لكل أنواع الأعمال والهوايات والفنون... حتى أنه جعل أبراجها في خدمة الشاشة الهوليوودية حين اختارها مخرجون ومنتجون لتصوير أحد أهم أفلام المغامرات الشيّقة!

في نصف قرن، دوّن الشيخ محمد ما عجز عنه أهم القادة العرب. فقد حاكى الإنسان والمبادئ والأخلاقيات في الحكم. وخاطب المواطن وفق همومه وهواجسه في التطبيق. وتقدّم على الرؤيويّين طارحاً "قصتي" كنموذج يجب أن يحتذى في سيرة ذاتية اختصرت 50 عاماً في خدمة نهضة الإمارة.

لكن، مهلاً شيخ محمد. لقد شغلت مواقع التواصل الاجتماعي بتوصيف غير صادق، حين قارنت بيروت بدبي. فأنت من الذين لم يحلموا بالنجاح واكتفوا. بل عملت جاهداً لبلوغ مطامعك السامية، خطوة خطوة... من دون أن تلتفت إلى مصالح ضيّقة أو خاصة، بل أبقيت المصلحة العامة فوق الجميع، الجميع من دون تمييز. وفي ذلك أكثر من ظلامة لعاصمة حُرمت منذ ولادتها من أسس الدولة الحديثة، فأبقت دستورها سلاحاً حين تشتد المناكفات، وقوانينها صورة تتسع وتضيق بحسب الأهواء والرغبات.

لو قُدّر لبيروت أن تدلي بشهادة، لكانت أقرّت أمام العالم بأنها لم تكن يوماً عاصمة لبنان وحده. فهي القبلة التي طبعت جبين العالم العربي في ستينات القرن الماضي حتى سبعيناته، حين اتّشحت بالسحر الغربي الطالع من استقلال جارات فاض بترولها ثروات هابطة من السماء، فأقبلت تنفق على بيروت، المدينة التي أغوَت العديد من أبناء آدم ذاك الزمان، الباحثين عن مقصد قريب ينقلهم بثوانٍ إلى أبعد مدن العالم.

ظلمت بيروت نفسها يوم اختارت حكاماً كانت تأمل أن يشبهوا أحلامها. لم تفلح في اختيار "رجال دولة" إلا في ما ندر، وعجزت عن تطويع المبادئ في خدمة الأخلاقيات. فما كادت تنطلق عاصمة تعبق بسحر الغرب لأشقاء عرب وأجانب، حتى أكلتها المطامع المحلية والمجاورة، واقتطعت من نجاحاتها مسلسل فشل لا نهاية له، ومَحَت من تاريخها، وبشحطة قلم، ما يجوز تسميته إنجازات.

يوم استضُعفت بيروت، سُرق منها دور مشعّ على عالمها. حارت في إيجاد وريث يليق بمهمة ليست عادية. وجدت في "شطارة" دبي ضالتها، ليس لموقعها الجغرافي أو لتاريخها العريق فحسب، بل لأن راعيها هو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، صاحب الرؤى والاستراتيجيات، وكاتب الوصايا العشر انطلاقاً من خبرة نصف القرن التي قضاها في خدمة مجتمعه وبلده. تقول الوصايا: "إخدم الناس، لا تعبد الكرسي، ضع خطتك، راقب نفسك، إصنع فريق عملك، إبتكر أو انسحب، تواصل وتفاءل، لا تكن غير منافس، إصنع قادة، إنطلق لبناء الحياة".

اليوم، تصرخ بيروت مستنجدة مَن يقيها شرّ حكامها. فبعدما أمعنوا في تهشيم صورة الدولة وسمعتها، ها هم ينتهكون حرمة الدستور والأعراف والمواثيق. أبعَدوا كل صالحٍ عام عن مرمى أهدافهم، واستنكروا لتوافق وطني على خير البلاد والعباد، واستبعدوا من قائمة الإنجازات ما يخدم كل تطوّر اقتصادي ومجتمعي، بدليل ما تفاقمه سلة الطبقة الحاكمة من مشكلات تتراكم بنفاياتها سموماً تقضّ مضاجع اللبنانيين.

كلام الشيخ محمد استفزّ بيروت لا حكّامها... إلى حدّ يدفعها لمخاطبة الحاكم الحكيم بعبارة "عذراً" لأنها خجلة من عجز لم تعد قادرة على مقاومته. "عذراً" مرفقة بـ"هنيئاً" لميراث كان يمكن أن يضيع مع الورثة، هكذا يقول التاريخ. فإذ بدبي تغرف في النهضة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإنسانية ما عجزت عنه يدا بيروت.

"عذراً" لأن بيروت ما استطاعت أن تسترجع نفسها بعد من أسرٍ طال حكمه وبات لا يحتاج إلا إلى معجزة تعيد بعضاً من خجل، مطلوب أن يتبلور ربما على شكل استقالات طوعيّة!