توفيق شومان- سوريا وبلاد الشام: مقالة في تاريخ الإسم

  • شارك هذا الخبر
Thursday, January 10, 2019

ورد في مجلة " العرفان " (1)اللبنانية الصادرة في العام 1909 ،في عددها الصادر في 30 نيسان / ابريل أن اسم سوريا مشتق من مدينة صور .
ويقول المطران يوسف الدبس (1833-1907) في كتابه المعروف " تاريخ سوريا الديني والدنيوي " إن أول من استعمل اسم سوريا ، هو المؤرخ الإغريقي ، هيرودتس، وتبعه الجغرافي والمؤرخ استرابون ، وقد زار هيرودتس مدينة صور ، ولما كان الإغريق على علاقة تجارية وثيقة مع المدينة ، ويزورنها بإستمرار ، راحوا يطلقون على أهالي المدينة اسم الصوريين ، ومن الصوريين اشتقوا كلمة السوريين ، لأن اللغة اليونانية لا تحتوي على حرف " ص" ، فإستبدلوه بحرف " س" .( 2)
وبحسب المطران الدبس ،أن كلمة صور مشتقة من كلمة " صر " الفينيقية ، ومعناها : الصخر أو السور أو القلعة .
وإذا كان الدبس لا يسقط من قائمة الإحتمالات ما يقوله مؤرخون آخرون من أن اسم سوريا يعود بجذوره إلى آشور ، وتم استبدال " الشين " ب "السين" ، للتخفيف ، فإنه لا يرجح هذا الإحتمال ، وهذا ما ذهب إليه الشيخ أحمد عارف الزين (1884ـ 1960) صاحب مجلة " العرفان في كتابه " تاريخ صيدا "، حيث يفرد في مقدمة الكتاب مساحة للتعريف بسوريا ، فيشير إلى احتمال العلاقة غير المرجحة بين آسور وآشور ، ويورد احتمالات أخرى ، إلا أنه يقول : " الظاهر أن الكتبة اليونانيين خلطوا بين إسم سوريا و آشور " (3)، واستشهد في الوقت نفسه بما يقوله رولنسون ، من أن إسم سوريا مشتق من صور ، ولصور معنى واحد بالفينيقية والعبرية والعربية ، أي الصخرة ، لأن مدينة صورالتاريخية كانت مبنية على الصخر .
وعلى ما يبدو أن إسم سوريا ، كان قليل الإستعمال وشحيح التداول بين عرب المنطقة ، فالشام كصفة تعريفية مطلقة طغت على التداول اليومي والكتابي والتأليفي بين السكان المحليين ، خصوصا بعد استعراب بلاد الشام أو سوريا القديمة ، واستمر هذا الأمر سائدا وشائعا إلى فترة متأخرة .
ومن آوائل الذين استخدموا إسم سوريا في العصور الحديثة ، البطريرك اسطفان الدويهي ( 1630 ـ 1704 ) في كتابه " تاريخ الأزمنة " إذ يقول : " لما بلغ هرقل ملك الروم ، أن دمشق قد أخذت ، قطع الأمل من كل بلاد الشام وقال : السلام عليك يا سوريا ، وسار إلى القسطنطينية (4) ، ليرد بعد ذلك إسم سوريا مرة واحدة في الصفحة 26، في كتاب يتجاوز عدد صفحاته ستمائة صفحة ، بينما استخدم أكثر من ثلاثمائة مرة الشام وبلاد الشام والبلاد الشامية .
والملاحظ هنا ان استخدام اسم سوريا ،كما جاء في كتاب الدويهي ، أول ما ورد على لسان هرقل +، في حين ان الدويهي ما انفك في كتابه يستعمل الشام أو بلاد الشام .
إلا أن المفارقة في كتاب الدويهي تكمن حين يسرد واقعة عسكرية جرت بين مدينتي صيدا وبيروت فيقول : " فيما كان نزول الفرنج على الدامور بين صيدا وبيروت ، وهناك قُتل فخرالدين عبد الحميد إبن جمال الدين ، حجي التنوخي من أمراء الغرب ، وأسروا أخاه شمس الدين عبد الله ، فإشتراه ناصر الدين حسين إبن خضر بثلاثة آلاف دينار صورية "(5) ـ ويقصد سورية ـ مثلما يشرح محقق الكتاب الآباتي بطرس فهد ، الأمر الذي يعود أدراجه إلى اشتقاق سوريا من صور كما ورد آنفا في كتاب المطران الدبس، ونظير ذلك ، يمكن قراءته في" تاريخ الزمان " لإبن العبري ( 1226 ـ 1286) حين يروي نزاعات وخصومات أمراء حلب ودمشق ، فيقول حين فر: " الأفضل الى حلب عند أخيه الظاهر وزحفا الى منبج واحتلاها وانقلبا الى حماه ، دفع لهما ناصر الدين بن تقي الدين ثلاثين ألف دينار صوري"(6) .
ولا يبتعد العلامة محمد كرد علي ( 1876ـ 1953) في موسوعته " خطط الشام " عن التفسيرات الجذورية السابقة لإسم سوريا ، ففي الجزء الأول من الموسوعة يشير ،حينا، إلى أن " سورية إسم غلب إطلاقه على القطر الشامي خلال عهد الإسكندر" ، مع تخفيفه من إسم أشوري لغلبة الأشوريين عليه ، وفي حين آخر يقول : " وقيل إن سبب تسميته بسورية نسبة لصور ثغر الشام القديم ، ومخرج الصاد والسين واحد " (7)
وعلى هذا المذهب ، يذهب بطريرك انطاكية مار ميخاييل السرياني الكبير( 1126ـ 1199) في تاريخه ، فيرى أن آشور هم السريان(8) .
ويرد اسم سوريا بسعة وكثرة في المصادر السريانية ومنها "تاريخ الزمان " لإبن العبري المذكور سابقا ،( راعي ابرشية حلب ) فيقول على سبيل المثال : " وفي سنة 772 م ارتحل ابو جعفر المنصور من بابل إلى ما بين النهرين وسوريا واشتد على الأهالي بضرائب باهظة وحشد كل الفضة والذهب في خزائنه ، فتضايق الناس وجعلوا ينبشون القبور علهم يعثرون على حلي مصوغة مدفونة مع الموتى "(9) ، وما يمكن ملاحظته أن ابن العبري لا يجمع دائما بين سوريا وآثور، ويصعب استخلاص مقصده ومبتغاه وعما إذا كان ذلك سهو قلم أم غاية لنفسها ، إلا أنه يقول على أي حال :"وانتشر في تلك الغضون وباء وجوع في سوريا وآشور لا لنقص الحنطة بل لخلو أيدي الناس من الدراهم " ( 10) ، ويكرر إبن العبري اسم سوريا في " كتاب الزمان " 82 مرة من دون أن يأتي على ذكر الشام .
ويقول ديونسيوس التلمحري السرياني ( 818ـ 845)++ في " تاريخ الأزمان : " في عام 692،أجرى عبد الملك (بن مروان ) تعديلا في سوريا ، فقد أصدر قانونا صارما ينص على أن يلحق كل فرد ببلدته أو قريته أو مسقط رأسه ويسجل إسمه وإسم أبيه ، وكذلك كرومه وزيتونه وثروته وعدد أولاده وكل ما يملك ، كان هذا بداية الجزية المفروضة على رؤوس الأفراد" (11) ، وكذلك قوله إن الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك ، أصدر مرسوما قاسيا يأمر بقتل الكلاب البيضاء والحمام الأبيض والديوك البيضاء والقضاءعلى كل الرجال الشقر ، كما أمر أيضا ألا تؤخذ شهادة سوري ضد عربي ، وحدد فدية العربي إثني عشر ألف دينار والسوري ستة آلاف (12).
ولا يخرج مرجع سرياني آخر عن هذا السياق ، فتاريخ بطريرك انطاكية ميخائيل السرياني الكبير يحفل بوجود سوريا في أجزائه الثلاثة ، ومما جاء في الجزء الثاني : " في سنة 992 يونانية ( غير الميلادية ) توفي معاوية في دمشق ، بعد أن ساس سوريا 21 سنة ، وخلفه ابنه يزيد وأمضى في الحكم ثلاث سنوات وستة أشهر ، وحدث شغب بين المسلمين ، وفي غمرة هذه القلاقل ، ظهر شخص يدعى مروان بن حكم ،جاء من يثرب الى دمشق ، وجمع الزعماء وقال : أيها القرشيون اسمعوني ،أ نا أكبر سنا من الجميع وقد جئت لأوفق بين أبناء يثرب وأبناء سوريا " (13)، وهذا الحضور الكثيف لسوريا يمكن ان نجده في تاريخ يوحنا الأسيوي ( 14) المتوفي في سنة 585 ميلادية .
لكن في الفترة نفسها تقريبا التي تعيننا المصادر السريانية على قراءة مفاصل التاريخ يأتي ابن القلانسي ( 1077 ـ 1160 م ) ليتحدث عن الشام وليس سوريا ، ومن ضمن أقواله ": في ذي القعدة 630 هجرية ، وصل القرامطة الى دمشق ونصبوا على أسوارها السلالم وتعلقوا بها وفتحوها قصدا ، وأوقعوا بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، وشنعوا بأهلها وقتلوا واليها جعفر بن فلاح ، وسبب ذلك أنهم لما رأوا جعفرا استولى على الشام ، أهمهم أمره وأزعجهم وقلقوا ، لأنهم كانوا قرروا مع ابن طغج أن يحمل إليهم في كل عام ثلاثمائة ألف دينار ، فلما ملكها جعفر ، علموا أن المال يفوتهم ، فعزموا على المسير إلى الشام " ( 15) .
وبين الإتجاه العام للمصادر والمراجع العربية بإستخدام الشام ، وبين المراجع والمصادر السريانية واليونانية بإستخدام سوريا ، يقف ابن عساكر( 1106ـ 1176) في منتصف الطريق ، وهوعلى الرغم من استخدامه الشام إلا أنه يقول : " وقال بعض الرواة إن إسم الشام الأول كان سورية "(16) ، وهذا ما يذهب إليه أو ما يقاربه ياقوت الحموي ( 1177ـ 1229) في " معجم البلدان " ، فيقول :" كان إسم الشام الأول سورى " ( 17) ، غير أن ما ذهب إليه إبن عساكر وياقوت الحموي ، يثير جدلا علميا وتاريخيا ، حول أن تكون بلاد الشام هي الإسم الثاني لسوريا ، فقبل سوريا ، وبصرف النظر عن جذرها الصوري او الآشوري ،أطلقت المدونات المقدسة القديمة ، على المنطقة المذكورة ، أرض آرام ، وأرض كنعان .
وليس بعيدا عن الإسم الثاني ، يذهب ابن خلدون ( 1332ـ 1406)، فحين يتحدث عن تاريخ الزمان يستخدم سوريا وينقل عن ابن العميد (1202 - 1273 ) قوله : " في آيام آحاب أوحى الله إلى ايليا على اياس بن بغسا ، ففعل ذلك وأن يبارك على أدوم في دمشق ففعل ذلك ... وعلى عهد آحاب جاء سنداب ملك سوريا فحاصر آحاب بن عمري والأسباط العشرة في السامرة " ( 18 )، وما يبعث على التأمل والتفحص في نص آخر لإبن خلدون ، ما يقوله عن بابل وخلائط أهلها ، فيجري قوله على هذا النحو : " وأما وجود السحر في أهل بابل وهم من النبط والسريانيين فكثير" ( 19 ) ، ومن دون أن يشير إلى صلة موصولة بين السريان وسوريا وبلاد الشام على الرغم من ورود السريان عشرات المرات في تاريخه .
وليس بعيدا عن المرحلة الزمنية لإبن خلدون، يكتب ابو الفضل الحلبي (1402ـ 1485م) كتابه المعروف " تاريخ مملكة حلب " يقول : من مدن الشام المستقلة مدينة طرابلس ، وهي مدينة قديمة تعرف بطرابلس الشام وذلك أنها على شاطىء البحر الشامي(20) ، ويرد اسم سوريا في هذا الكتاب سبع مرات وإسم الشام 21 مرة ، و في الكتاب المذكور ، يحاجج ابو الفضل الحلبي ، بعض أسلافه القائلين إن مدينة حمص كان اسمها القديم سوريا فيرد عليهم قائلا: " إن اسم سوريا يطلق على الشام كله وعلى حلب وعلى غيرها " (21) ، ومما جاء في كتاب ابو الفضل الحلبي نقلا عن آخرين ، أن سوريا بلدة خربة ، قريبة من حلب ، وإليها يُنسب اللسان السرياني والقلم السرياني، وكذلك قولهم إن مدينة قنسرين لم يكن اسمها قنسرين ، وإنما كان اسمها سوريا ، فيعيد أبو الفضل الحلبي تكرار ما سبق قوله حول شمولية سوريا (22) ، وواقع التاريخ لا ينفي احتمال وجود سابق لبلدة أو مدينة إسمها سوريا ، ومن دون أن يلحق مس أو انتقاص من سوريا التاريخية ، فياقوت الحموي في " معجم البلدان " ، يقول هو الآخر :" سورية موضع في الشام بين خناصرة وسلمية "( 23).
ولو اقتربنا قليلا نحو القرن الخامس عشر الميلادي ، وتم التقليب في كتاب " تاريخ بيروت " لصالح بن يحي ( نحو العام 1445) لعثرنا على إسم الشام مرات عدة ، ويغيب عن الكتاب ذكر سوريا(24)، وعلى ما يبدو أن هذا النحو الشامي ، شكل المسار التاريخي للمؤلفين والمؤرخين والأعلام العرب أو المستعربين تاريخيا ، ومن ضمنهم أبو الحسن المسعودي ( 895 ـ 957) وكتابه " مروج الذهب ومعادن الجوهر "، حيث الوفرة غير المحصورة باستخدام الشام وبلاد الشام والثغور الشامية والساحل الشامي ، وكذلك أبو جعفر الطبري(839 - 923) في " تاريخ الرسل والملوك ".
( عودة إلى هيرودتس )

بحسب كثيرين ، ان اتخاذ سوريا اسمها من اسوريا والتحول من أشور الى أسور ، فيها ما يحتاج الى تدقيق ومراجعة ، فبحسب المؤرخ الإغريقي هيردوتس (484ـ 425 ق.م ) ، أن " الأمطار في بلاد آشور قليلة ،ولا توفر من الرطوبة إلا ما يسمح بانفلاق الحبة وللجذر أن ينبت ، أما نمو الحبوب فيكون بالتروية الإصطناعية ، أي شق الآخاديد والترع ، كما هو الحال في مصر ، بغمر الأرض بالمياه ، ولكن البلاد كما في مصر حافلة بالسدود ، ولا بد للمرء أن يركب القارب ليقطع أكبرها ، والناس هناك ينأوون عن زراعة التين ولا يعنون بالعنب أو الزيتون " (25).
والواضح هنا ، أن هيرودتس لا يتحدث عن بلاد الشام التي يكثر فيها التين والعنب والزيتون ، ولا يحتاج أهل الشام للقوارب لعبور الأنهار ، فآشور التي يعنيها هيرودتس هي العراق ، حيث دجلة والفرات ، والأخير على تخوم بلاد الشام كما يقول ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، فيما السدود النهرية وقنوات الري الكبرى ، عُرفت تاريخيا في مصر والعراق ، وليس في بلاد الشام حيث أنهارها الصغرى ، وإلى حدود تنازع فيها المؤرخون وما فتؤوا متنازعين حول أسبقية المصريين أو العراقيين حيال تطوير الزراعة واستجرار المياه إلى مسافات طويلة عبر قنوات مائية لم يعرفها العالم من قبل .
وعلى ما يقول هيرودوتس أيضا إن بعض القبائل من أهل آشور : " لا يتناولون طعاما سوى السمك ، فيصطادونه ثم يعمدون إلى تجفيفه تحت أشعة الشمس ، فيطحنونه بعدئذ بطاحونة من الحجر ، ثم يجري غربلتها بمنخل من القماش، وبعضهم يؤثره بشكل كعك ، وبعضهم يتناوله كرغيف الخبز "(26)، وهذا ليس من المعروف في بلاد الشام من حيث اقتصار النظام الغذائي تاريخيا على السمك ومشتقاته .
والملاحظة الثانية في هذا السياق ، تكمن في تناقض الطباع الفينيقية ـ الكنعانية ـ الشامية ـ السورية مع الطباع الآشورية ، فالسوريون وأجدادهم الفينيقيون والآراميون ، وخصوصا الفرع الساحلي منهم ،عُرفوا تاريخيا بالطباع المرنة وليونة التعامل وذاك متأت من طبيعة عيشهم القائم على التجارة والحياة المدينية ، فيما الآشوريون عُرفوا بطباعهم الشرسة المستمدة من طبيعتهم القائمة على القوة العسكرية ، وهذا ما يجمع عليه المؤرخون ومن ضمنهم ول ديورانت حيث يقول إن الآشوريين : " ظلوا يسيطرون بقوتهم الوحشية مائتي سنة على الشرق الأدنى( 27) ، فيما أرنولد توينبي يصف الآشوريين بالتالي : " قامت آشور بالدور التدميري ، وما كادت أن تستكمل مهمتها وتتولى انشاء دولة عالمية في المجتمع الذي هي آفته ، حتى جلبت الدمار على نفسها بالمغالاة بالروح العسكرية " +++ ولم يعرف عن السوريين او الفينيقيين ذلك.
وبطبيعة الحال يرد اسم سوريا في تاريخ هيرودوتس مرات عدة فيقول مرة :" وأحسب أن مصر كانت في قديم العهد خليجا يمتد من البحر شمال مصر وآخر يدخلها من بحرالجنوب ( الهندي ) ويمتد نحو سوريا ، ويقول أيضا: " إن تربة مصر لا تشبه أي من تربة البلاد المجاورة مثل بلاد العرب أو ليبيا أو حتى سوريا التي تشكل الحد البحري لبلاد العرب " (28)، ويكمل قائلا : يروي الفينيقيون انهم كانوا يسكنون بحر العرب في قديم الزمان ثم هاجروا الى الساحل السوري وما زالوا يسكنون هذا الساحل إلى اليوم وتُعرف هذه المنطقة وما يليها جنوبا بفلسطين "(29)++++.
ومثل هذا التقسيم الإسمي المجرد ، كان من شأنه أن يرافق مسارات تأليفية تاريخية متفرقة ، إلا أنه لا يطال الوحدة الجغرافية ـ الحضارية ، ويمكن الإشارة إلى أمثلة امتدت الى القرن العشرين ، مثلما ورد في مجلة "لغة العرب" البغدادية ، في مطلع العشرية الثانية من القرن العشرين الميلادي ، حيث قالت :" كثر في هذه الأيام ذكر الصهيونية ، وأغلب الناس لا يعرفون عن أمرهم شيئا ... ومما نبه الأفكار إليهم مبعوثو سوريا وفلسطين ( مجلس المبعوثان ـ النواب العثماني ) ومما قاله مبعوث القدس الشريف إن في المدينة المقدسة ثمانين ألف يهودي ، وقد أيد مبعوث الشام ما قاله رصيفه المقدسي وزاد عليه قوله : إن سير هؤلاء الأقوام سبر أمة ليس إلا " (30 )، أو كما قال عمرابو النصر : ولما تقدم الحثيون في القرن الرابع عشر قبل المسيح إلى سوريا وفلسطين، وكانت السلطة آنئذ لملوك مصر "( 31) علما أنه في صفحة سابقة يقول إن حدود سوريا تقع على غربي المتوسط .
إلا أن الطبري ( 839 - 923 ) الذي سبق الأب انستاس لكرملي صاحب مجلة " لغة العرب " وعمر ابو النصر مولدا وتاريخا بقرون عدة ،لا يذهب الى هذه التجزئة اللفظية فيقول ": إن مُلك الشام من فلسطين وغيرها صار بعد طيباريوس إلى جايوس بن طيباريوس وأن ملكه كان أربع سنين "( 32) ، ويقول الطبري ايضا : وكان ابو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشام كورة ، فسمى لأبي عبيد الله بن الجراح حمص ، وليزيد بن أبي سفيان دمشق ، ولشرحبيل بن حسنة الأردن ، ولعمرو بن العاص فلسطين" ( 33) .
وعلى طريق الطبري يخطو ياقوت الحموي ( 1179 ـ 1228) في " معجم البلدان " حين يحدد طول بلاد الشام وعرضها فيقول : " وأما حدها فمن الفرات إلى العريش المتاخم للديار المصرية وأما عرضها فمن جبلي طيء إلى بحر الروم " (34).
( سوريا من جديد)
سبق القول إن إسم سوريا شاع وساد في المرحلة اليونانية ، وبالتحديد بين المؤرخين والكتبة الذين أعقبوا هيرودوتس ، ومن الأخير أخذ الجغرافي والمؤرخ استرابو ، ومع توسعات الإسكندر مشرقا ، باتت سوريا إسما ورمزا لوحدة جغرافية وحضارية غير مجزئة ، لتنتقل مع الفتوحات العربية إلى مرحلة جديدة طغى عليها استعمال بلاد الشام .
إلا أن إسم سوريا ، راح يبرز من جديد ، إنما بخجل في مطالع القرن السابع عشر ، وسبق القول إلى ما أتى عليه البطريرك اسطفان الدويهي، وبعد الأخير استعمل الأمير حيدر الشهابي ( 1761ـ 1835) إسم سوريا في كتابه المعروف " تاريخ أحمد باشا الجزار " (35)، وهو جزء من تاريخ مطول معروف ب " تاريخ الشهابي " والشهابي مولود في قرية معاصر بتدين في منطقة الشوف اللبنانية ، إلا انه أقام في بلدة شملان.
ومثلما تمت الإشارة إلى ندرة استخدام سوريا في " تاريخ الأزمنة " للدويهي ، فثمة مفارقة مماثلة في كتاب حيدر الشهابي ، إذ ورد إسم الشام أكثر من 120مرة ، وإسم سوريا خمس مرات فقط.
وبعد حيدر الشهابي ، جاء الدكتور ميخائيل مشاقة ( 1799ـ 1888) ، مستخدما إسم سوريا ، وذلك في واحد من أهم الكتب التي عالجت الحوادث الطائفية في لبنان وسوريا في الأعوام 1840 ـ 1860 ، وهذا الكتاب بعنوان :" مشهد العيان بحوادث سوريا ولبنان "، (36) وميخائيل مشاقة ولد في بلدة رشميا في جبل لبنان ثم انتقل لاحقا للإقامة في دمشق في ثلاثينيات القرن التاسع عشر .
وعلى الرغم من استعمال اسم سوريا في كتب حيدر الشهابي وميخائيل مشاقة ، يبدو أن الإسم لم يكن بذاك الشيوع في مطلع القرن التاسع عشر ، ففي كتاب " تاريخ سليمان باشا العادل "( 37) لإبراهيم حنا العورة ، الذي عمل كاتبا لإبراهيم باشا ، خليفة أحمد باشا الجزار على عكا ، يرد إسم بلاد الشام أو الشام 46 مرة ، ولا يرد إسم سوريا مرة واحدة .
ولا يختلف عبد الرحمن الجبرتي ( 1753 ـ 1822) عمن سبقوه ، إذ يكثر في الجزء الثاني والثالث من تاريخه من استعمال : بلاد الشام ـ الجهة الشامية ـ الشام ـ عسكر الشام ـ ( 38) .
ولكن اسم سوريا يرد كثيرا في " الأصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا " لأسد رستم ، ومنها رسالة من القنصل الإنكليزي في بيروت ،مور، إلى وكيله في مدينة صور اللبنانية جرجي عطالله ويقول في الرسالة الأقرب الى اللهجة اللبنانية :"وأما تعريفنا الأول كافي بعلم الإتحاد الذي حصل بين دولة الإنكليز الكبرا ( هكذا ) ودولة بروسيا ودولة المسكوب ، مع السلطان أي دولة العثمانية بترجيع سوريا لتحة ( هكذا ) أحكامه" ( 39)، وفي رسالة أخرى تعود إلى العام 1840 من القائد العسكري التركي محمد سليم باشا الى البطريرك يوسف حبيش يرد هذا النص : " لقد شرع باب همايون الدولة العلية صانها رب البرية ، بموافقة آراء حضرات الملوك العظام الإنكليز ونمسا وبروسيا ، على رفع الأثقال الصادرة عن عساكر المصرية الخوارج ،عن عدم ولاياتهم وإدمارهم من الوجود قصاصا ، لما فعلوه من المظالم في بلاد سوريا "(40).
وفي فترة قريبة للمحفوظات المصرية يتحدث طنوس الشدياق( 1805-1861 ) عن المدن اللبنانية ومن ضمنها صيدا ، فيقول : " صيدا مدينة قديمة بناها صيدون بن كنعان بن حام بن نوح ، وأخذها شلماناصر ملك آشور قبل المسيح بسبعماية وعشرين سنة ، وتسلمها الملك اسكندر المكدوني قبل المسيح بثلاثماية واثنتين وثلاثين سنة ، ثم صارت لملوك مصر وسورية ثم للرومانيين ثم للروم ثم للإسلام "( 41)، ويحسب طنوس الشدياق مدينة عكا في قائمة المدن اللبنانية ويقول عنها : " عكاء بالمد وهي مدينة قديمة في أرض عكة ، سنة 1290 أمر الملك الأشرف بهدمها فجعلوها قاعا صفصفا ، وسنة 1799 حاصرها بونابرتي بجيوش الفرنساوبة ، فأخرب أبنيتها وهدم سورها ثم رحل عنها ، جددها الجزار ، واليها ، تحصينها ، فصارت أحصن مدن سورية " (42) .

في العام 1895 ، يكتب شاهين مكاريوس عن حوادث العام 1860 ،فيدمج بين سوريا وبلاد الشام ، ويقول " كانت سوريا أو بلاد الشام من عهد بعيد مقرا للحضارة ومركزا للعز وصفاء العيش وقامت بها الدول الكثيرة ونمت طوائفها نموا واسعا ، وعظمت متاجرها إلى حد لم يرو عن غيرها من البلدان في التاريخ " ( 43).
ومثل هذا الأمر يمكن أن نجده في المؤلف الموسوعي للشيخ عبد الرزاق البيطار ، المولود في حي الميدان الدمشقي (1837-1916) ففي الجزء الثالث من كتابه " حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر" يتحدث عن :" ناشد راشد باشا والي ولاية سوريا الجليلة،الوالي المعظم والكبير المكرم ، تعين واليا على الشام وعلى جميع البلاد السورية ذات الإهتمام " ( 44) ص: 1570)، ونلاحظ هنا الوصل والدمج بين الشام وسوريا.
وهذا الدمج نفسه ، يمكن ملاحظته في" الرحلة الشامية " في العام 1910 ، للأمير محمد علي باشا ، حين يتحدث عن مدينة بيروت فيقول إنها : " مدينة قديمة التاريخ من أشهر وأهم مدن سوريا التجاربة وهي أكبر ميناء في بلاد الشام وعدد سكانها يبلغ الآن 150ألف نسمة أغلبهم من الطوائف المسيحية ... حيث المسلمون هناك لا يزيد عددهم عن أربعين ألف نسمة ، على حين أن المسيحيين يزيد عددهم نحو مائة ألف نسمة أو يزيدون" (45).
قبل ذلك ، وبفترة قليلة ، تظهر سوريا في إطار أهلي ، لعله المرة الأولى ، من خلال "الجمعية العلمية السورية " في العام 1857، التي شكلها بطرس البستاني وناصيف اليازجي ، وضمت إليهما حسين بيهم ومحمد ارسلان وعشرات غيرهم، وفي التاسع والعشرين من أيلول / سبتمبر من العام 1860 ، يصدر بطرس البستاني صحيفة " نفير سوريا "، وفي عددها الرابع الصادر بتاريخ الخامس والعشرين من تشرين الأول / أكتوبر 1860 ، يقول : "سكان سورية على اختلاف مذاهبهم وهيئاتهم وأجناسهم وتشعباتهم ، هم أبناء وطننا ".
ومع شيوع الصحافة المكتوبة والدوريات المنتظمة وغير المنتظمة ، في آواخر القرن التاسع عشر ، يمكن ملاحظة كثافة حضور سوريا في مختلف المطبوعات الصادرة منذ ذلك الحين ، ففي العدد الثاني من مجلة " المقتطف " المصرية ( 1ـ 7 ـ 1876) ليعقوب صروف ، حديث عن " علاقة المرصد السوري بالمراصد الأوروبية والأميركانية حول حوادث الجو " ، وابتداء من العدد الرابع ( 13ـ 9 ـ 1892) من مجلة " الأستاذ " المصرية ، لعبد الله النديم ، تحضر الكثافة السورية ومنها : " علينا معاشرالمصريين والسوريين أن نحيي ما أماته التخاذل من مجد السابقين وشرف المتقدمين " ، وفي العدد الأول من مجلة " الهلال " المصرية لجرجي زيدان ، والمؤرخ بأيلول / سبتمبر 1892 ، تحقيق مطول عن الجرائد العربية ومن ضمنها " الجرائد السورية التي تصدر في بيروت "، وكذلك هي الحال مع مجلة " المنار" لمحمد رشيد رضا الصادرة في القاهرة ابتداء من العام 1898 ( 46) وزميلاتها المصريات الأخريات في المرحلة الزمنية عينها .
ولا تحد الدوريات البيروتية عن الجادة إياها ، ففي مجلة " المشرق " للويس شيخو ، يرد إسم سوريا في العدد الأول ، وفي العدد الثالث تحقيق عن مرض السل بقلم الدكتور حبيب الدرعوني ، فيقول : " وهذه بلادنا السورية ، فقد نشرت عليها تلك العلة وتوطنت فيها من زمان ليس ببعيد "( 47).
وانتقالا إلى دمشق ، كتبت مجلة " المقتبس " الدمشقية لمحمد كرد علي في الأول من شباط / فبراير 1906 : " مضت نحو ثمانية عقود من السنين منذ أنشئت أول صحيفة عربية أنشأها محمد علي الكبير وسماها الوقائع المصرية ،وما لبثت الصحافة أن ولدت ونشأت في أرض سوريا ثم انتقلت إلى مصر " .
وواقعا وعمليا ، يمكن اختصار الرأي العام في تلك الحقبة ، وبالتحديد بعد صدور " نفير سوريا " لبطرس البستاني ، وما تلاها من دوريات وصحف مطبوعة ، بكونه ـ الرأي العام ـ شق الطريق لإستعادة إسم سوريا التاريخي ، ومن دون أن يتخلى عن إسم بلاد الشام المستحدث .
( خاتمة )
إذا كان معظم التاريخ قائم على الظن وما تبقى إملاء أهواء ، كما يقول أحد أهم المؤرخين في القرن العشرين ، ول ديورانت ، فهذا ما يجعل هذه الدراسة غير مقفلة ، وذلت قابلية مفتوحة على النقاش ، فإنه من جهة ثانية يمكن الإنطلاق من مقولة ديورانت إلى القول إن سوريا مرت بخمسة أطوار إسمية هي :
ـ أرض كنعان
ـ أرض آرام
ـ سوريا القديمة
ـ بلاد الشام
ـ سوريا الجديدة
وفيما شكلت بيروت مرفأ دمشق الحديثة ، فإن صيدا وصور شكلتا مرفئي البلاد السورية قديما على ما يقول أغلب المؤرخين والباحثين ، في حين أن سوريا الجديدة ، أكثر ما ظهرت إسما ورمزا ووحدة حضارية في كتابات اللبنانيين المحدثين ، ابتداء من البطريرك اسطفان الدويهي ، مرورا بالأمير حيدر الشهابي وعبورا بميخائيل مشاقة ، وفتحا غير مسبوق مع بطرس البستاني وصحيفته " نفير سوريا " وانتهاء بمجلات اللبنانيين في مصر ، من مثل "المقتطف " ليعقوب صروف ، و "الهلال " لجرجي زيدان، مع الأخذ بالإعتبار أولا وأخيرا ، احتمال الإشتقاق اللغوي لسوريا من مدينة صور الواقعة على الشاطىء اللبناني ـ. السوري ـ الشامي ـ الآرامي.
والله من وراء القصد